بقعة واحدة ، لسان واحد ، سماء واحدة ، والبحث عن الاتفاق الجوهري

.

الخميس، 28 يناير 2016

القرية ... الزائر و الشيخ ...

By 9:04 م
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته 





نسمة باردة تتسلل لكل نفس ألقى بجسده بعد تعب يوم عمل و جد و إجتهاد … بين حقل سوق و مرعى و بيت … ليفيق بتجدد النشاط بعد نوم مع مغادرة مصباح السماء أخر حد له في الأفق … و يبدأ حياة جديدة في يوم جديد … و ينطلق معها شعاع الذهب على الحقول يفرش نفسه … على البيوت و الأشجار و لعب الأطفال الملقية في زوايا الشوارع … ينعكس … و يدفئ … صوت أجراس الماشية تخرج من حضائرها … و حلب البقر لحن يعشقه الجميع… سلام الشيوخ و لقاء الجيران … مسير إلى الحقل … و آخر إلى المرعى … وها هو بقال القرية يفتح بابه … صوت الأطفال و دوي صرخاتهم مع الضحكات يسمع بوضوح … ليزيد في جمال عزف النهار مع العصافير ودجاجات وبط سمين … 

معيشة بسيطة جداً … تعيشها هذه القرية و الكل فيها يعرف لنفسه واجب و مكان ، و حدود و همه في الحياة محدود … أرضهم بعلامات واضحة يعرفونها محددة … فذاك الحجر هناك حد لبداية أرض و نهاية أخرى … و عند التلة أيضا … بداية و نهاية … و شجرة الزيتون العتيقة هذه ذات المائة و يزيد من الأعوام … معروف أنها حد من حدود إلتقاء الأراضي … كل مافي القرية منها يكفيها ، و لم تكن بحاجة لشيء من خارجها ليزيدها راحة ، إكتفاء أهلها بما تنتجه أيديهم ، كان يجعلها أغنى قرية في كل البلاد … لا يزورهم شخص غريب إلا ما ندر ، فليس لهم علاقات بالعالم الآخر أو إرتباطات … و لم يخرج منهم أحد ليزور العالم إلا إبن أحد المزارعين وهو فقط من أصر أن يرى العالم و يجوبه و يتعلم لغاته و فنونه ولم يكن راضيا بأن يبقى في هذه القرية و إن كان هواءها أكثر نقاء من أي هواء في أي مكان … و أما البقية … فكان إرتباطهم بلأرض و رغبتهم في إعمارها و إستمتاعهم برائحة طبيخ ما يزرعون و بأنفسهم ينتجون … وعيشهم لتوفير ذلك و إهتماماتهم هذه أغنتهم عن التفكير في غير ما فعل  أهلهم و هم الآن يفعلون …

شيخ كبير في القرية برجاحة العقل و رزانة المنطق و حسن الرأي معروف … كبير في السن و هو أكبر أهل القرية و قد فارق أقرانه و من في سنه الحياة عن قريب … و هو يعرف جيدا أنه عن الفراق ليس ببعيد … و وجب منه تنبيه أهل القرية لإختيار من يحرس مصالحهم بعد الممات … لم يكن أحد يهتم لما سيحدث أكثر من إهتمامهم بصحة شيخهم و أن يكون في أتم الراحة و لا يحتاج شيئا إلا و وجده عنده … و العمل أكثر يشغلهم …


في يوم الشمس فيه كانت عن الأرض بغيم محظورة … و الرياح فيه تتلاعب بالبرد توزعه على كل شجرة و صخرة بالطين مغمورة … بقايا أوراق الشجر تتطاير معها محمولة …

ظل أسود … يمتطي ظل فرس يلحقه ظل كلب … يقطع المساحات عن مكان آمن ليبيت الليلة يبحث … يتفحص المحيط يقترب من كتل صخرية متراصة كالجدار القديم … ينظر يدقق … لعل في حطام هذا المكان جوف من الرياح و البرد يأويه … يجد فجوة … بالصخر مبنية … يقترب منها يشعل شعلة … يضاء له ظل على ما تبقى من جزء الحائط … من خلف غطاء على الأرض ملقي … يظهر له وجه شاحب لجسد يرتعد من البرد … يفاجئه مباشرة بقول … ماء … هل لديك شربة ماء … 
إنكب عليه بقنينة الماء … فأخذ يرشفها … كأول رشفة ماء يحتسيها في حياته … أحظر له بعضا من الخبز … و قطع اللحم المقدد … و حبوب فاكهة إقتطفها مصادفة … حتى إرتاح و هدأ …  أخذ يهيء خيمته … ليبيت الليلة هناك … 
زاد الدفء بإشعال نار ألقى فيها ما جمع من حطب … يعمل في صمت و هو يشاهد الشيخ متعجبا في حاله وما آل إليه مآله ، و كيف وصل إلى هنا و أين أهله و عياله … 
جلس إليه وقد إعتدل في جلسته و إتسعت عيناه و شعر بالشبع … و سأله … ما الذي أتى بك إلى هنا … ماذا حدث لما أنت بهذه الحالة؟
إنعكس لهب النار على دمعة باردة على خده إنزلقت … و قال … نحن الذي حدث … نحن الحدث … و أخذ يقص عليه كيف آل مآله إلى ما هو عليه … فقد كان أحد سكان قرية كانت ها هنا قائمة … 

فأخبره أن شيخ القرية … الذي كان ذاك الوقت إعتماد الجميع عليه … عمره على نهايته قد شارف ، و الأجل أخذ مكانه منه و الحياة بهدوء فارق … و القرية هدأت و إلى المقبرة سارت … و عاد كل إلى بيته حزنا داره حتى الصباح لم يفارق … 

و لم يفكر أحد فيما سيحدث بعد ذلك … من سيتولى أمورهم ومن في مكان شيخهم سييدير شئونهم … ومن سيهتم بما يجد من أحوال و يزوج بناتهم ، و من سيخطبهم يوم الجمعة … و إلى من يشتكي من له من أحدهم شكوى إن كان هناك أي شكوى … 
في اليوم التالي … عاد كل إلى عادته … و أخذ طريقه إلى عمله … حقل سوق و بيت و بستان … و الراعي الى المرعى أخذ الأغنام … و إستمرت الحياة كعادتها … و الكل في عمله مشغول … ولم يفكر أحد في حال القرية و إحتياجها لرجل مسئول … ليهتم بشئونهم وهم في أشغالهم أوقاتهم يقضون … 

إجتمع بعض رجال القرية قبيل المغيب … ليتباحثوا أمرهم … و يحددوا إختيارهم … و ينصبوا أكثرهم أهلية ليهتم بأحوالهم … 
فكان كل منهم عن ذلك منشغل … و خوفه من المسئولية يبعده … و رفض كل من عرض عليه المقام … ليتفرغ له و يهتم … ولكن لكل منهم حجة إطعام العيال … و الإهتمام بالأرض و الأعمال … و إستمر النقاش على ذات الحال … حتى تحور الحوار إلى أكثرهم قدرة على ترك عمله … و من ثم إلى من لا شغل له ، ليستطيع القيام بهذا الواجب … و أختصرت النتيجة على من لا شغل له ولا عمل … و لديه من الفراغ متسع … و أختير العاطل الوحيد في القرية … ذاك الشاب الذي يقضي يومه جالسا عند مدخل القرية … يتفحص الداخل و الخارج … و أهله يعملون في حقلهم … ويحلبون بقرهم …
إعترض أحد الرجال … وقال هذا إنسان بطال ولا يفقه إلا في القيل و القال … فجاءه الرد من البقية ،  و هل لديك حل آخر غير أن نترك أعمالنا و نجلس لإدارة شئون القرية؟ 
فسكت عن الأمر عاجزا عن الرد … غير راغب في التطوع ليكون هو المسؤول ولكنه أشار إلى إمكانية أن يكون لهذا الشاب مستشار منا … و لم يتطوع أحد … و أكدوا له أنه ليس لديه ما يفعله … و ستسير الأمور كما العادة … 

صباحا مع قطر الندى … جمع الجميع في القرية ليعلموا بأنهم نصبو ذاك الشاب ليكون مديرا لشئون قريتهم … و أنه سيهتم بتنظيم أحوالهم و من كان له شيء يمكنه أن يعود إليه … 
لم يهتم الكثيرون بذلك و باركوا الإختيار … و إتجه كل إلى عمله … وهم مطمئنون … أن كل شيء سيكون على خير ما يرام ، فهم على كل حال … لا مشاكل بينهم ولن يلجأوا له حتى يحل مشاكلهم على كل حال … 

مرت الأيام … ولا شغل يشغل ذاك الشاب ولا من يأبه إلا كيف هو الحال … و الجميع في شغلهم منشغلون … 
أخذ يحوم حول القرية … و يحاول التدقيق في حالها و يرى كيف صار به الحال مشرفا عليها ، ولكن أهلها لا يتخاصمون ولا يتشاجرون و حياتهم نغم مستمر … و كلمة الرجال تعلوا كل لكمة و الأطفال يسمعون أوامر أهلهم … و النساء في واجباتهن منهمكات … و كل الرجال يتعاملون بأخوة و صداقة متكاملة … ولكن كيف … كيف أكون أنا مشرف القرية ولا أثبت أني قادر على حل المشاكل و إبدأ الرأي و إصدار القرارات و تطبيقها و حتى فرضها إن لم يستمع لي أحد … كيف يكون ذلك … يجب أن أثبت وجودي … و أن أظهر كل ما لدي من مهارات و حنكة و فطنة … يجب أن أتصرف … 
أخذ يجمع حوله كل من وجد من الصبيان … و كل من لا شغل له منهم ولا مشغلة … و يقربهم إليه … و يعدهم و يمنيهم … و يعطيهم مهمات و يشعرهم بالأهمية و إحتياج القرية لدورهم … وضرورة طاعة أوامره … و يعدهم بالعطاء … فوجد منهم آذان صاغية و أثار أطماعهم … وبدأ في تحقيق مراده … و أهل القرية في أنفسهم منشغلين … بالبحث عن قوت بالعمل منهمكين … حتى أدخل بينهم الطمع و أغارهم بالحسد ، و ألب بعضهم على بعض لأجل أمتار في قطع الأرض … 

كادت النار تنطفئ …  لشدة تركيزه على ما يقصه الشيخ … وهو يرى اللهب يحرق كل ما وضع من حطب … لا يبقي منه إلا رمادا … و النار يصعب أن تأكل الرماد أو به تشتعل … 
جف الدمع على خده … و أخذ يردد … نحن الذي حدث … إهتممنا بالرزق المقسوم … و أهملنا الواجب المحتوم … إتكأ على ما تبقى من جدران بيوت القرية وهو يرددها … ولم يصمت حتى أخذه التعب و نام … 


شكراً…

0 التعليقات: