بقعة واحدة ، لسان واحد ، سماء واحدة ، والبحث عن الاتفاق الجوهري

.

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

عندما تحدثت الأطياف...

By 2:28 م
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته 


في غرفة لم يدخلها شعاع شمس منذ مدة... بصيص نور يسرق لنفسه مدخلا من ثقب بستائر شرفتها.. يسقط على خدِ جسد على الفراش طريح، متلاحقة أنفاسه من نهايتها تقترب والقلب خافت النبض جريح... تتقلب العين تبحث في سقف الغرفة عن أفق.. واليد ممدودة بلا حركة تُحنّيها التجاعيد بشكل صريح، لا صوت في الغرفة غير صوت ذبابة عند الزجاج عالقة تبحث لنفسها عن مخرج لتهرب من هنا وتستريح.



إذا بأطياف أفكار وقدرات ومواهب تتسرب إلى الغرفة وحول السرير تجتمع، تقف تنظر إليه تتأمله، تراقبه.. وأعينهم بالملامة والتساؤل مليئة، وبالغضب مشتعلة.. لماذا؟ لماذا احتجزتنا ولم تطلقنا؟ لماذا حبستنا في عقلك ولم تسرحنا؟ لماذا منعت عنا الحياة؟ لما فعلت ذلك بنفسك؟

نظر الجميع لبعضهم والحزن يملأ أعينهم...
تقدم طيف كثيف من رأسه وانحنى عند أذنه كي يسمعه جيدا وقال: أتذكرني؟ أنا فكرتك المميزة التي كان الأجدر بك أن تكتبني كتابا، أو تنشرني مقالا أو تدوينة ليقرأني ويستنير بي ولو إنسان واحد، ولكنك خجلت وتكاسلت واستهزأت بنفسك وقللت من شأنها ولم تمنحني الحياة لأخدم هدفا.


أبقيتني في فكرك أتقلب حسرة حتى أصابتني القروح، وها أنت على فراش الموت ولن أطمع في الولادة منك بعد الآن وكلي جروح.


نظر الطيف إلى طيف إحدى قدراته العلمية وأومأ إليه، فاقترب وتعابير وجهه بالامتعاض مليئة، ولم يرغب في الحديث، ولكن البقية شجعوه ودعوه أن لا يكتم قولا.


فقال بتردد غاضب، منذ زمن ما عدت أنتظر منك شيئا، فقدت الأمل بعد كل التجارب التي مررت بها معك، كنت تستطيع فعل الكثير بي، كنت تستطيع الاستمرار في دراستك وتحصيل علوم أدق، كنت تستطيع تحسين حياة ذاك الطفل عندما احتاجك، كنت تستطيع تغيير حياة ذاك الشاب أيضا، ولم يتطلب منك الأمر كثير عناء، كنت أعرف أنك بي تستطيع تحقيق ما يحتاج، كان بإمكانك فعل الكثير ولكنك ركنتني وحبستني وأهملتني واثاقلت إلى الأرض، أهدرتني ومعك سأذهب هباء كما أنت.


ربّت طيف صوته على كتفها ليقطع أنين البكاء، وأخذ مكانها قائلا: كنت وسيلتك لإيصال كل هذه الأفكار، ولكنك أسكتني، في حنجرتك وبين شفتيك حبستني، كنت لك صوتا مدويا إذا ما استعملتني، ولكنك كنت كل مرة تخجل وتبلع لسانك وتطبق شفتيك وتتركني في الظلمة أصرخ بلا حيلة، كنت موقنا أنني أستطيع أن أعبر وأخبر وأبيّن للناس كل ما حملت من أفكار مميزة لم يحملها غيرك.


نظر إلى طيف فكرة كانت في أقصى الغرفة منزوية والدمع يشق أخاديد على خديها. كنت أستطيع إخراجك للعالم، إن سمح لنا، ولكنك تعرفين جيدا أنه لم يفعل، رغم كل مراودتك له وإصرارك عليه. أسكتني ولم أجد شفاهه بي تتحرك، وماذا بعد الآن؟ عشت في صمت مطبق وكل ما أردت الجهر به سيدفن معك.. إلى الأبد؟ يا لها من حياة أرخصتها.


اقترب طيف حلم من أحلامه الذي كان يراوده أعواما طويلة، مسح على جبهته بعض العرق المتصبب منه وقال: كنت أتمنى أنك بذلت جهدا أكبر في ملاحقتي، كنت أحتاج فقط إلى بعض المجهود لأتحقق، كنت أنجزتني وأصبحت عندها واقعا ملموسا وليس فقط حلما خافتا سيرحل الآن معك كما جاء. ليتك سعيت وجاهدت واستمررت في المحاولة ولم تستسلم وتتهاون وتخضع لكل أولئك المحبطين المشككين فيك وفينا.. لكنت الآن أجوب العقول وأغير حياة الكثيرين. ليتك حققتني، ليتك لاحقتني، ليتك بذلت جهدا أكثر.. ولكن لا فائدة الآن، فها أنت تحتضر وستسلم الروح لننتهي نحن وكل الفرص التي ضيعتها لتترك أثرا في هذه الحياة.. تنتهي أيضا.


نظرت لكل الحاضرين وهي تقول: ظلمتنا معك.. نعم ظلمتنا معك، حتى بسمتك كانت معنا مظلومة.


ماذا بعد؟

ها نحن نجلس حولك وما بالأيدي حيلة، مُنحت الكثير وامتلكت الكثير من القدرات والأفكار والمواهب، ولكنك لم تستغل وجودها، لم تستغل وجودنا والتهيت في توافه الأمور، ونحن ننتظر أن تنتبه لنا وتمنحنا الحياة... أينفعنا الحزن والندم الآن؟


وقف طيف الشجاعة الذي كان يقف عند الباب، تقدم من الفراش وقال وهو يكظم غيظه: يعرف الجميع كم كنت راغبا في أن أكون سببا في خدمتكم، راغبا في أن أنطق وأصرخ وأتحدى كل ما واجهك، أردت أن أرد على أولئك التلاميذ الذين ضايقوك في المدرسة، أردتك أن تتوقف عن الخوف من الكلاب، أن تخبر والدتك أنك لست من كسر التحفة، أن تخبر والدك أنك أنت من أفسد هاتفه، أردت أن أتعاون مع فكرتك وتقديم مشروعك وإنجاحه، كنت أريد أن أقول الحقيقة بحق ذلك الأستاذ الخبيث، أردت أن أتصرف في مواقف كثيرة، ولكنك لم تعطني الفرصة بهربك واختفائك السريع كل مرة، لأجدني عاجزا عن التصرف، مدفونا بداخلك في صمت، وليتك لم تك تلقي باللوم على الآخرين على ما تفعله أنت، ليتك منحتني الإذن لأعترف بذلك.


رغم كل ما امتلكت، فإنك منعتنا من الحياة، ولم نسمع صوتك ولم نقرأ لك الكتاب الذي راودتك فكرته وأردنا أن تنشره ولكنه بقي مدفونا فيك ولم تكتبه، كغيره من الأفكار.

امتلكتنا في حياتك وكنا رهن إشارتك، ولكنك خفت النجاح، خشيت المواجهة، أرعبك الفشل، كنا لك وحدك، كنا بين يديك، ولكنك لم تفعل بنا شيئا، ولم يكن لأحد غيرك أن يمنحنا الحياة ولم تفعل، بل اخترت عيش حياة راكدة محطمة، كل ما فعلته فيها هو الأكل والشرب والاستهلاك والنوم.. عشت تابعا للآخرين سلعة لهم، وها هي النهاية، فهل رضيت الآن بما حققت في حياتك؟ هل اكتفيت من الخضوع والتردد والتبعية؟


لم تتمالك شجاعته نفسها وانهارت على الأرض باكية، لم يعد لديها ما تقول. عينه إلى السقف مشدودة تنظر في لا شيء هناك بأفق السقف محدودة.. وقفت الأطياف أفكارا وخواطر وقدرات ومواهب وصوتا.. نظر كل إلى الآخر نظرة أخيرة، نطق فيها الصوت قائلا: ليتك أحييتنا عندما كان بإمكانك ذلك، ليتك أطلقتنا ولم تسلمنا لألم الحسرة والانتظار.

شكراً...

0 التعليقات: