بقعة واحدة ، لسان واحد ، سماء واحدة ، والبحث عن الاتفاق الجوهري

.

السبت، 30 أبريل 2016

اللقاء ...

By 10:24 م
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته 



طرابلس … هدوء الثلث الآخير من الليل إحتل وسط المدينة …  هدأت الساحة ذات الأرضية الخضراء و الأضواء بها تحيط تحيل ليلها نهار … إنقطعت أصوات العربات و محركاتها ، سكنت الأنفاس في بيوتها ، حط الطير في عشه … نامت العيون الساهرة في عرباتها … سكن الهدوء أيضا  … 
في تلك الليلة الصيفية الدافئة …  كان سراب تبخر الحرارة يبدو كثيفا من الأرض منطلق …  عم الصمت و ركدت الريح وكل من يتنفس …
هدوء تام … 

عين في تغطيها الظلال خلف إحدى النخلات عند الإستراحة من جهة الفندق الكبير شمال شرق الميدان كانت تراقب … وتتفحص … لتأكيد أن لا أحد يراها … نظرت إلى الأعلى على يمينها وهي تنظر جهة مدخل السراي الحمراء … عقدت السبابة والإبهام وبهما شدت لسانها ونفخت فيه لتصدر صوت صافرة خفيفة بالكاد سمع صداها …
إلتفتت إلى اليسار أقصى الساحة عند النافورة المائية و أطلقت صافرة أخرى … إخترقت ذبذباتها أبخرة حرارة الساحة لتصل أصحابها … 
تراجعت العين خجلة متبعة الظلال ودخلت خلف الشجيرات الكثيفة بين الشوارع … وضعت يدها حول رقبة حيوان آلف كل منهما الآخر و إحتظنته … وإلى جانبه جلست تنظر إليه بهدوء يقف… وأخذت تنتظر … 

عند السراي … صوت وقع سوط يضرب الهواء و صهيل فرس يضرب بحوافره أرضية رخامية يأتي من علو … تهب معه رياح تثير بعض غمامة ترتفع مع المسلة المقابلة لمدخل السراي الحمراء وتختفي … و ينطلق ظل نحو الشجيرات حيث أتي الصوت …

تشقق في الصخر و تصدع يعقبه صهيل فرس و خفقان أجنحة و حمحمة … تحركت معها النافورة و إهتزت ليتناثر بعض الماء على أرضية الميدان و يعقبه أثر إتجاه ظل صاحبه نحو الصوت عند الظلال بين الشجيرات … 

دخل الفارس بفرسه بين الشجيرات ليجد فتاة جالسة بجانب حيوانها وهي تحتضنه … لم يكن يرى بوضوح ولكنه عندما تقدم أكثر … قال بدهشة …
- غزالة؟ أنت بخير؟ ماذا تفعلين هنا؟
لتأتيه إبتسامة و ضحكة ناعمة تقول 
- أنا لست غزالة … أنا الحسناء … و هذه غزالة أم أنك كبقية الناس تختصر إسمي في الغزالة 
قال الفارس في خجل حياء مليء بالمروءة … 
- أنتِ تعرفي أنه لولا ستر الظلام لك لما إستطعت النظر إليك مباشرة وما ساعدني على معرفتك هي الغزالة 
- لا عليك ، و صدقني ليس بيدي أن أرتدي شيئا أو لا ، فلم يصنعني والدي إلا على هذه الهيئة … 

إنتبه الإثنان لخشخة الشجيرات من خلفهم … لتنحسر على فرس البحر الطائر يقترب منهم يضبح ويصهل ويخفق جناحيه … فرحا 
- لا أصدق غزالة و الحسناء … 
إلتفتت غزالة إلى الفارس وقالت 
- أرأيت هذا هو إسمي … الكل يعرفني بالحسناء وليس غزالة
فرد الفارس مباشرة 
- ربما لأنكما أقدم مني في المدينة و يعرف بعضكم بعضا أكثر مني … ولكن الكل يناديك غزالة هنا
فقال الفرس … 
- أين كنتِ ولما لم تطمئنينا عنك ظننا أنك أختطفتي؟ إنشغلنا عليك لم نرك منذ مدة … 

طأطأت الحسناء رأسها في أسف و حزن وهي تحرك يدها على الغزالة و تربت على رقبتها وقالت … 

- لولا تعلقي بهذه الأرض وحبي لها و قضائي فيها أكثر من سبعين سنة لرجعت مع البارجة البريطانية التي أجلت رعاياها عند إندلاع حرب المطار و طلبت منهم أن ينزلوني في إيطاليا حيث دفن أبي هناك … ولكني فضلت الإختباء و التواري عن الأنظار حتى أرتاح وأهدأ وأبتعد عن كل هذه الفوضى  
- وما الذي أتى بك إلى هنا الآن ، ألا تخشين أن يراك أحد؟ قال الفرس 

- لست أخشى أحدا فليس بقمدور أحد أن يعرف أين أنا أو أن يراني ، فمعرفتي بالناس هنا قديمة وأعرف طباعهم جيدا 
- كل ما في الأمر أننا نريدك أن تكوني بخير … أردف الفارس 
أعاد الفرس سؤاله … 
ولكن مازلت أريد معرفة ما الذي أخرجك من مخبأك؟ 
- أردت الحديث معكم لمعرفة ما رأيكم فيما يمكننا فعله لإصلاح ما أفسده هؤلاء القوم!
قال الفارس وهو يشد لجام حصانه الذي أخذ يضرب الأرض بحافره 
- لا فائدة لا تتعبي نفسك لن تستطيعي فعل شيء ، ما لم يكن هناك من يستمع 
- إلا إذا فزت في أحد المباريات يا فارس ، عندها ستمتلئ الساحة و تضج بالفرحة … قال فرس البحر 
هز فارس رأسه متأسفا … 
- لا تذكرني ، ليتني أملك القدرة على ترك مكاني و الهرب ، فرؤية تلك الجموع كلما أقبل إحتفال وتفرقها كلما إحتاج العمل … بات يزعجني حقا
- ربما تستطيع الهرب ولكنك تفضل ما إعتدت عليه … قالت غزالة 
- وكيف أقنعتي الغزال أن يتبعك وسيطرتي عليه ولا يفتضح أمرك؟
- الغزال جزء مني ولا ننفصل عن بعضنا أبدا 
- حسنا ما العمل الآن ، قال فرس البحر خافقا بجناحيه  
- ما رأي إخوتك ؟
- رأيهم من رأيي فنحن الأربعة نفكر معا نعيش معا نفعل كل شيء كأننا واحد ، وهم الآن يسمعونك بسمعي و يرونك برؤيتي وما أقول هو ما يقولون … 
إلتفت إليه الفارس رافعا سوطه ملوحا به … 
- ليتنا نستطيع جعل أهل البلد يتصرفون مثلكم يا فرس البحر ، أن يجتمعوا على ما يصلح بهم …
- لا تأثير لنا عليهم ومهما فعلنا فإننا لن نستطيع إقناعهم حتى للكف عن الإجتماع هنا في الساحة كلما أرادوا الإحتجاج أو الفرح و الرقص و الغناء و صم آذاننا بالمفرقعات و الهتافات المتعالية وضرب المنصات و التوعد …
- أنا شبعت من الوعود وأردت العمل وليتني أستطيع لكنت فعلت … ولكنهم لم يشبعوا ولم يعملوا…
وقفت غزالة وإقتربت منهم ، ليخفي الفارس وجهه مستحيا … قال 
- غزالة إبقي حيث أنت أرجوك … 
ضحك فرس النهر وهو يخفق بجناحيه و يهز ذيله يضرب به الأرض ، و تراجعت غزالة لتعود إلى الظل لإخفاء جسدها العاري في الظلمة حيث كان  … 
- إسمها حسناء وليست غزالة ، ما بك يا فارس … 
قالها فرس البحر مقتربا من الفارس غامزا فرسه الذي أخفى وجهه إستحياء
- لن تفهم أنت معنى الحشمة والحياء لأنك حصان ، ولو لم تكن حصان لفهمت 
- هذا ما تظنه أنت فقط … 
قاطعتهم حسناء بصوت خافت حزين متألم … 
- أشعر بالحزن لما حدث ويحدث ، لم أكن أتوقع أن كل أولائك الذين رأيتهم يحومون حولي في أفراحهم و مسراتهم وبهجتهم يملأون السيارات والمدينة بهجة ، يمكن أن ينسوا أنفسهم و تغريهم الدنيا ويتكاسلوا عن العمل و حب بعضهم البعض و تجرهم أطماعهم ويستسهلوا قتل النفس …
- لا عليك يا غزالة ، لا عليك فهذا ليس بالأمر الجديد على بني البشر قال فرس البحر 
- ولكننا أهل جود و كرم و نقف مع الحق و ننصر المظلوم و نوقف الظالم عند حده ولا نرضى المهانة ولا نرضى الذل … 
- هذا ما أنت عليه يا فارس … أصيل إبن أصيل 
- أتعرف يا فارس ، أتعرف يا فرس! 
إلتفت الإثنان إليها في صمت فقالت 
- ليت سبتيموس كان معنا …
- صحيح لو كان هنا لأعطانا رأيا سديدا فهو خبير في مسائل الحكم و الحرب … قال فرس البحر
فتحرك فارس بفرسه و توسطهما وهو يحاول أن لا يقع نظره على غزالة … 
- ولكن الواقع أن ما يحدث لا يحتاج إلى أكثر من بعض العقل و الشعور بالمسئولية تجاه النفس والبيئة التي تحتويك ، يحتاج إلى مروءة رجال والكف عن السفاهة و لجم الطمع وتوحيد الهدف وتأجيل الخلاف … 
- هذا الكلام لا يفهمه البشر يا فارس 
- بل يفهمونه و يعونه جيدا ، ولكن أعماهم الطمع و جرتهم العاطفة 
- لهذا قلت لك أنهم لن يفهموه ، وليتهم فقط يجتمعوا كما إجتمعنا نحن الجماد ... 

رضي فارس بما قاله فرس البحر على مضض و أراد أن يكمل كلامه لولا أن سمع صوت محرك سيارة يقترب من أقصى شارع البلدية … مما دعاهم جميعا للإنطلاق إلى أماكنهم والإشارات بينهم تؤكد على أن يحافظ كل منهم على سلامة نفسه … 
عاد كل منهم إلى مكانه … و عادت غزالة للإختفاء … و كل منهم كان يحمل في قلبه رجاء أن تصل أمانيهم لأهل هذا البلد بأن يتذكروا أنها أوسع من أن تضيق بهم جميعا وأن ما فيها من خير لا يمكن أن يثمر إلا بإجتماع كلمتهم و تمسكهم بما بينهم من قواسم مشتركة … أشياء يحتاجها الجميع و يصر عليها … وبالإمكان تحقيقها واقعا ليس فقط حلم … 

شكراً…


0 التعليقات: