بقعة واحدة ، لسان واحد ، سماء واحدة ، والبحث عن الاتفاق الجوهري

.

الأربعاء، 26 أكتوبر 2016

تجربتي مع الصعاليك… يوم إهتز الإنسان بداخلي

By 10:02 م
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته 



كانت نومة عميقة جدا، إستأنست فيها مع نوم إعتدت راحته لسنوات، نوم يعرفني وأعرفه… لأفيق باكرا لأجل رحلة العودة إلى المدينة حيث بيتي و أسرتي، نبهني والدي أن لا أسلك ذاك المسار الذي كثر فيه الإجرام وقطع الطريق، ولكنني أكدت له أنني جئت من ذات الطريق وكان أمنا جدا ولا حاجة للقلق، وهو أقصر بكثير من أي طريق ملتوي تفاديا لتلك المنطقة، نستعمله في أوقات الضرورة.
إتصل بي والدي فأخبرته أنني الآن منطلق للعودة إلى طرابلس وسأكون هناك بعد قليل، ولشدة قلقه وخوفه كان يكرر الإتصال كل عشر دقائق ليطمئن.
بعيد آخر مكالمة تطمينية وفي لحظة مباغثة أغلقت سيارة الطريق أمام السيارة التي تسبقني مباشرة... وقبل أن ندرك ما حدث، سيارة أخرى سدت الطريق من خلفي...
تفحصت حولي لأتأكد ما الذي يجري... ولم أرى إلا وجوها مقفهرة في ثياب عسكرية مدنية بزي شعبي مع بنادق من الأكتاف تتدلى... 
كان السؤال الأول بعد أن أنزلت زجاج السيارة.
من أي مدنية انت؟
وما أن أجبته حتى فتح الباب ووضع يده على كتفي وهو يسحبني من السيارة بهدوء ويقول، أنتم أحبابنا وأصحابنا.
كأنني فقدت الإحساس حينها وأنا أعرف ما الذي يحدث، ولكن كان كأنه إستسلام لواقع معلوم... الحكايات في الذاكرة القريبة متراكمة عن من إختفوا فجأة ومن ثم ظهرت جثتهم على قارعة الطريق ملقاة هامدة…
تجمدت الأفكار، عندما أجلسوني في كرسي سيارتي الخلفي، وأمرت أن أغطي وجهي بثيابي، وكأنني طفل مطيع، بلا مقاومة ولا عناد فعلت.
هل سيجد أبي الإطمئان عندما يتصل الآن؟
ذكر الله أكبر... لا إله إلا الله... تداخل كل شيء بكل شيء، لم يعد هناك صورة واحدة ثابتة... أصواتهم خافتة ولم يمضي الوقت حتى أدخلت لغرفة جدرانها الصمت، والوجه مغطى...
كالتائه في صحراء الحيرة أنصت أحاول إستراق السمع لعلي أعرف أين أنا وما الذي يجري.
لم يمضي وقت حتى سمعت صوتا من خلف الباب يأمر بأن أغطي وجهي من جديد... لتتحرك السيارة مسافة بدت قريبة.
حديث متقطع، أصوات صفقة تعقد!؟ تسليم وإستلام؟ أهو أمر مدبر تدبير؟ أم هي صدفة اللهم إجعلها خير!
دُفعت إلى غرفة أخرى في مكان آخر أكثر ضجيجا، لابد أن الليل قد حل الآن، ولعل النوم زارني في فراشي الليلة ولكنه لم يجدني حيث إعتدنا اللقاء، لعله الآن عني يبحث في أماكن معروفة له... وكيف له أن يجدني في مكان أنا لا أعرفه.
على ذات الأمر إنتبهت صباحا، قبل أن يدخل صاحب الصوت بأن أغطي وجهي وكذلك مجددا فعلت...
لتتحرك السيارة من جديد لوجهة أخرى لا أنا ولا نومي نعلمها.
كيف هو أبي الآن يا ترى؟ أمي أبنائي زوجتي.
التسليم هذه المرة كان مختلفا عن المرات الأولى، فتلك كانت ترحيب بهذا الصبي المطيع، أما هذه المرة على ما يبدو كان إستقبال المشاغبين، الذين لابد لهم من تأديب وتربية، لم يتعرض وجهي يوما لصفعات كهذه، لم تستقبل بطني وأحشائي مثل هذه اللكمات من قبل... وإن كنت تصارعت مع أطفال الجيران في صغري، ولكن أن تنهال عليك الأيدي ضربا والعين معصوبة واليد مكتوفة... هذا ما لم أختبره أنا وجسدي حسا قط من قبل...
لم يسبق لخيالي في السبعة والخمسين عاما التي مضت من عمري، أن مر به، أن أيدي أجهل ملامح أصحابها في مكان لا أعرفه... من كل إتجاه لا أراه... تنال مني ما تنال في أماكن لم أتوقع يوما أن تلمسها يد بشر ...
وليت أذني صُمّت عن سماع ما تلفظت به ألسن الشياطين... لم يسلم من سبهم وشتمهم حتى الخالق سبحانه ... 
توقفت هناك النفس ... وزادت حيرتها... ما الذي يريده هؤلاء الصعاليك...
أخطر ببالي حقا أن أسميهم صعاليك حينها، أم كنت خائفا أن يسمع أحدهم أثر حديثي لنفسي!؟.
خشيت أن يحدث هذا... 
حقا خشيت... ولم ينتهي الأمر حتى عصبت عيناي وشد وثاق يدي ببعضهما وأجلست غرفة لم أرى إن كانت مضيئة أو مظلمة... 
الليلة... أتراه يجدني... أتراه كف عن البحث... أترى للقمر ضوء الآن؟… سأحاول النوم لعلي اجده ويجدني...
مددت قدمي وإنطرحت محاولا إستدعاء النوم... وها هو يأتي ... ولكن
ليس هذا النوم الذي أعرف... ليس هذا النوم الذي إعتدت... وإعتادني... هذا نوم جديد ... نوم من نوع آخر ... نوم من أثر التعب... تعب اللكمات والضرب والإهانات ... نوم الجوع والعطش... نوم ... ايجدر بي ان اقولها... نوم قضاء الحاجة حيث أنت ويداك مقيدة... نوم الهرب من أفكار كثيرة... 
طعام لم يكن بالإمكان تسميته طعام... ماء ... قليل أو لا ماء...
إعتاد الحبل على معصمي والعين معصوبة ... الوقت فقد مني الإحساس به... صباح أم مساء... كم مر يوم على وجودي معصوب العين مكتوف الأيدي؟… إن كنت أنا من وجد هناك... كمّ كبير من الأسئلة التي لم أجد لها تعريف في كل ما عرفت من كلمات…
حتى فتح الباب وعاد الإحساس بالوحشة والخوف من ركلات ولكمات وشتم وسباب إستمر دون توقف لم استطع حسابه... ليقال لي... خذ تحدث مع والدتك... وإياك أن تظهر ألما او خوفا أو فزع... أنت بخير وكل شيء على أحسن ما يرام...
أخذت السماعة بيدي وكنت أتمنى انني لم أفعل... 
سمعت الصوت وليتني لم أسمع… إهتز بداخلي ذاك الذي صغيرا ربته وبالحنان أغرقته… خوفا تمالكت نفسي... خوفا أردت أن أصرخ ... أردت أن... أبكي ... ولكنها أمي… لابد أن قلبها علي بتقطع… و عقلها يتلاطم… أنا بخير… وقطعت المكالمة قصيرة...
زاد فيها القيد على رقبتي خنقا والثقل على قلبي وزنا ولم أنجوا من بقية الحصة لأكون تسلية للشياطين...
مرت الأيام متساوية... متشابهة كثيرة الجوع والعطش... قليلة النوم... كثيرة العفونة والقذارة...
أسمع أحدهم تارة يقول... ياله من مقرف قذر... إغسلوه أو أخرجوه من هنا... 
أقول في نفسي كلاهما خير... ولكن لا أنا الذي أغسل... ولا أنا الذي أخرج… ولا أنا الذي…

وما أن يفتح الباب وتبدأ اللكمات والركلات حتى أعرف أنه موعد الحديث إلى أمي... حتى بت أتمنى أن لا أفعل ولا أتحدث معهم أبدا ... 

كم الساعة الآن؟ لا أدري ولا اليوم ولا التاريخ به أشعر... ما الذي ينوون فعله بي؟
أتراهم يقتلونني وينتهي بي الحال جثة على ناصية أحد الشوارع ملقاة لا يهتم لها إلا الذباب؟ أو في الأحراش وبين القمامة والقاذورات بي الحال ينتهي؟…
أم هم صعاليك تجارة ينتظرون إفتدائي بما طلبوا من مال؟
لن أقول أنني تمنيت الموت... لأن ما بالقلب من إيمان، يمنع ذلك ولا يقترب منه... ولكن كان الأمل بالله والرضا بما قسم الله من إبتلاء…
غاضب أنا الآن مما حدث ويحدث... غاضب من هذه العقول السمجة وتصرفاتها ... ولكن مايفيد غضبي الآن ... وأنا أعيش في زريبة لا يسكنها أحد غيري... مستقبل مجهول ... وحاضر أكثر غموضا ... 
كم إنقضى حتى الآن من العمر في هذه الغرفة؟ كم مضى على وجودي هاهنا ... كم وكم ... 
لم أرى وجها من هذه الوجوه التي تنفث الغضب والسم بأنفسا كريهة كلما تحدثت ... لم أرى أيا منهم ولم أستطع الرد على شيء... 
وكان حظي أنهم وجدوا صورا لي في رحلة الي إحدى الدول... لينهالوا علي بالضرب والسب والشتم... لماذا؟
لأنني أستمتع ببعض المال وهم لا يستمتعون بشيء... لأنني وجدت فرصة للسفر وإستطعت التقاط صور وإستمتعت في حياتي... 
كان يوما مميزا من بين تلك الأيام التي لا تنسى... كنت في نظرهم حينها... آكل لارزاقهم ظلما وعدوانا... كنت في نظرهم العدو الأول والسبب الرئيس في عيشهم حياة الفقر والبساطة... كنت أنا سبب كل ما هم فيه مما هم فيه... 
وعلى قدر ما تسببت لهم فيه... كان عقابهم لي... اليد مقيدة... والرأس بكيس مغطى... ولعلك بت تعرف الآن كيف كانت رائحة المكان الذي بقيت فيه مدة لا أعرف مداها... 
لعلك تعتقد أن ما يحدث كان مؤلما…
ألم ... كلمة لم تعد ذات معنى ... لفقرها في التعبير عن ما حسست به وإختبرته وبه مررت... 
ليلة من تلك الليالي المعدمة ... التي تصالحت فيها مع النوم الجديد... إعتاد بعضنا بعضا... وعرف مكاني ... فتح الباب دون مقدمات... لأسحب وأجر إلى الخارج ... لم أستوعب ما يحدث... أهي نهايتي، قضي علي؟ سياخذونني لمكان آخر؟ لما يخرجونني الان؟
لا أعرف أكثر من أنني وضعت في صندوق السيارة الخلفي وتحركت السيارة... 
إلى أين؟ 
هل سيجدني أحد المارة بالصدفة جثة هامدة؟ هل ...
إنقطعت التساؤلات ...
بأن أخرجت من الصندوق وأمرت أن أقف عند ناصية الطريق... 
إنتظرت رصاصة تصيب رأسي... كنت منكمشا بداخلي منحنيا في وقفتي منكسرا في نفسي... أنطق الشهادتين في إنتظار قبض الروح برصاصة...
بقيت هناك برهة... سمعت فيها صوت السيارة عني تبتعد... ماذا أفعل يا ترى... أزيل رباط عيني؟ 
أبقيه...
لم أعرف إلا ورائحة مألوفة راودتني كدت أنساها ... إنها رائحة أمي... أتت مع توقف سيارة فتح بابها وسمعت صوت أخي يقول...
إركب بسرعة إركب...
كمن يهرب من الموت إلى السيارة إندلفت بثقة فهذا صوت أخي و رائحة أمي... والرأس خافضا أبقيت... أصبحت الرائحة أقوى الآن ... يا الله إنها في الكرسي الأمامي تجلس... أخي يقود السيارة...
إنتهى الكابوس؟ إنتهى الرعب؟ أمي بخير؟ لم أتلقى في راسي رصاصة ...
كيف حدث هذا... كيف بداء وكيف وصلت إلى هنا... ما الذي حدث… كيف إنتهى.. 

عدت إلى أهلي وبيتي... وقد كلفت عودتي ما كلفت ... دفع لأولائك الصعاليك لشراء حريتي وإطلاق سراحي وإعادتي لاهلي... 
قال أبي... يهون مال الدنيا كله من أجل سلامتك يا بني... الحمد لله أنك بخير...
لا أعرف يا أبي... لا أعرف إن كنت بخير...
وَمِمَّا لا شك فيه أبدا... أن نومي الذي أعرفه ويعرفني تاه ولم يعد يجدني... ولا أدري إن كنت سألتقيه مجددا عن قريب أم لا … 


شكراً…

0 التعليقات: