السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
أفاقت أم الخير كعادتها في قرية النعمة و الرضا … تلك القرية الهادئة التي تعيش في رغد و نعمة و رخاء … ليس بكثرة الخيرات و إنتشار الغنى … ولكنها بالرضى بما لديها و الزهد فيما لا تملك … مرتاحة … أهل القرية كل يمارس مهنة تكمل إحتياجات القرية كلها ، لديهم خباز و نجار و حداد و طبيب و ممرضة و مربي حيوانات و جزار و خضار و مجموعة من المزارعين و منتجي البقول و ساقي المياه و حارس …
نظام بسيط ليس معقد ، كل شيء يعمل بالضبط كالساعة الدقيقة التي لا تحتاج لمن يراجعها ، في كل صباح قبيل بزوغ شمس الصباح و عند الفجر ترى الراعي يجهز نفسه ليأخذ القطيع إلى المرج القريب من القرية ليرعى حتى المغيب ، و كذا أبو العز يخرج ليجهز بقراته لحلبها و نقل الحليب باكرا قبل فتح البقال أبوابه … جميل يخطط منذ الأمس أن يبدأ باكرا ليجمع العسل من الخلايا التي يربيها في أطراف حقله أسفل التلة … يفكر في وفرة إنتاج هذا الموسم و يعدد أسماء من أوصاه و ينتظر نصيبه من هذا العسل المعروف بنقاءه و شفاءه للكثير من الأمراض … أم الخير كعادتها كل بداية نهار ، إتجهت لجمع بيض دجاجاتها الذي تتقاسمه بينها و بين متجر القرية ليوفر للناس ما يحتاجون من بيض … فتحت باب بيتها الخشبي الذي تربطه بخيط ليف لتغلقه ، فليس في القرية ما يتطلب أن يركب أقفال أو أبواب حديدية …
خرجت و تركت الباب مفتوحا و إتجهت إلى الحضيرة و معها سلة سعف تعلقها بذراعها … ببطء و تمايل تسير أم الخير … و مع كبر سنها إلا أنها تبدو قليلة التعب … كثيرة الحب للحركة و العمل … و هي من يدير شأن حديقتها الصغيرة و تهتم بدجاجاتها … إقتربت من الحضيرة … شعرت بأن هناك شيء ما يحدث … على غير العادة ، فمن عادة دجاجاتها الترحيب بها عندما تقترب و يعرفن أنها بعد أن تجمع البيضات سترش لهم الحب خارج الحضيرة لتقضي الدجاجات اليوم تسرح في الحقل المسيج حول البيت … ولكن لا صوت للدجاجات اليوم … ماذا حدث يا ترى … هل هربت الدجاجات ؟ هل أكلها الثعلب؟ هل ماتت الدجاجات … دار في ذهنها الكثير من المخاوف التي تنتابها دائما قبل أن تعرف ما حدث حقا ، فتحكم أحكاما غيابية على أحداث لا وجود لها و تصدقها و تتفاعل معها و كأنها وقعت حقا … إنتابها القلق … فتحت باب الحضيرة ببطء خوفا من الصدمة في شيء ما … فرأت الدجاجات مجتمعات في زاوية واحدة من الحضيرة … و كأنهن يرفضن الإلتفات لها … أو أنهم في إجتماع منهمكين ولم يبالوا أو ينتبهوا لها … دخلت … ألقت نظرة على موضع البيض… لم تجد أي بيضا قد وضع اليوم … ماذا يحدث يا ترى ؟
أبو العز واقف يحاول إقناع بقرته أن تهدأ لكي يحلبها … مستغربا تصرفها حائرا في فعلها … فهي بقرته منذ سنوات و لم يحدث أن رفضت إقترابه منها قط … و لم ترهقه بهذه الطريقة أبدا … و كأنها لا تريد أحدا أن يلمس ضرعها و يحلبه … بعد ان حاول معها مرارا … تركها و إتجه لبقرة أخرى علها ترتاح حتى يقضي من تلك البقرة … و لكن كانت ردة فعل تلك البقرة كذلك أنها ترفض الحلب … لا تقف مكانها و ترفس بقدمها و تقلب السطل كلما وضعه تحتها … حاول الكلام معها كما إعتاد ملاطفتها و حاول أن يخبرها عن ما ينتظرها من علف و أن الطقس اليوم سيكون رائعا و الحقل مليء بغني الأعشاب التي تحبها … و أنه سيسمح لها بأن تجتاز السياج الذي طالما منعها من الرعي خلفه … و عنفها عندما كانت تحاول … ولكن لا جدوى … عاد للبقرة الأولى … و لكنها أيضا رفضت أن يحلبها … و كان كأن ضرعها لا يحمل أي حليب فيه … وهو يعلم أن البقر لا يحتمل أن لا يحلب حليبه لإنه سيشعر بالضق في ضرعه لكثرة الحليب فيه ، ولكن البقرات اليوم لا يشتكين ولم يتحمسن كالعادة لحلبهن و لا يبدو أن الضرع فيه حليب من الأساس … جرب مع كل البقرات … ولكن لا جدوى …
سحب الراعي العصا التي تغلق حضيرة القطيع ليفتح بابها و ينطلق القطيع كعادته خلف قائده الكبش الفحل الذي يختلف عن كل القطيع بقرونه الملتوية و كتلته الضخمة … ولكنه وقف ينتظر ولم تخرج أي نعجة من الحضيرة … ما الذي يجري … يشعرون بالخوف؟ بالبرد ؟ أم أنهم تعرضوا لهجوم البارحة … هل هربت النعجات … تقدم من المدخل … إذا بالكبش يخرج و يقف أمام الحضيرة ولا أحد كما تعود يلحقه … نظر إليه … و لم يجد فيه أي شيء قد تغير … يبدو طبيعيا و ليس بمريض … ولكن لماذا لا تخرج النعجات أيضا … دخل إلى الحضيرة ليرى … فكانت النعجات ملتفة حول نفسها في حلقة كأنهن يتحاورن و يتبادلن الحوار عن أمر مهم …
أصدر الصوت بصفير معهود لهن ليخرجن … ولكن لم تلتفت له أي منهن … خرج ، و قف أمام الكبش الذي بدا غير مباليا بما يحدث … و أصدر الصوت مرة أخرى … ولكن … لا إجابة …
لم يجد جميل أي أثر لأي قطرة عسل في الخلاية التي يربيها … مع أن النحل لم يغادر الخلية … و يبدو في مكانه … تملكه العجب … و أخذ يفتح خلية بعد أخرى … بعد أخرى … لم يجد شيئا … من عسل … و وجدها كلها فارغة …
في حضيرة الدجاج … واقفة أم الخير حائرة … إلتفتت دجاجة من الدجاجات … لتصيح كالديك و تبعتها كل الدجاجات بذات الصياح …
ومذ ذاك اليوم … لم يعد يتوفر شيء من بيض أو حليب أو عسل أو لحم ضأن أو صوف في تلك القرية … إلا عندما تطرب تلك الحيوانات و تعطي ما تريده هي … متى ما أرادت هي …
حتى تأقلم أهل القرية و وجدوا بدائل لكل ذلك … و لم يعد أحد يهتم لدجاجة تبيض أو بقرة تحلب … نعجة أو نحلة تعطي عسلا … أو توفر صوفا …
شكراً…