السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
صوت قرقعة … متكرر … جعله يتقلب … و ينظر إلى الساعة ليتأكد من الوقت … إنقلب على جانبه الآخر … أخذه النوم لشدة التعب في عمق الحلم …
صوت القرقعة تكرر … فتح عينيه وهو في مكانه … محاولا الإنصات … سيتكرر الصوت … ها هو … ولكن لا شيء تكرر ولا شيء عن أي شيء حوله صدر …
حاول العودة إلى النوم مجددا ولكن كان النوم عنه قد إبتعد … و لم يسعه أن يرجعه و يغمس عينيه فيه لتشبع به … و تستريح عظامه …
إنقلب على ظهره و إستقبل السقف … شديد البياض … صافي … بلا شوائب … تنهد … و أرخى أطرافه … وسكن …و تجمد هناك لحظات … لحظات لم تدم طويلا … فشقها صوت قرقعة متصل …
إنتفض من مكانه كمن سكب عليه إناء ماء بارد … و أتى جالسا … في مكانه … و قال يا الله … ألهذه الدرجة أخذ مني الجوع مأخذه … ألهذا الحد نسيت أن آكل شيئا أقيم به صلب نفسي … بطني تقرقع في نومي … و لتني حملت بوليمة أو طبق شهي …
- ولكنها نتيجة طبيعية لمن إلتهى عن نفسه …
إلتفت حوله يبحث عن مصدر الصوت ، و ظن أنه يهذي لشدة الجوع و الإنصراف عن الطعام …
- لا تلتفت ، فمهما إلتفتت لن تراني …
قفز من سريره وهو يمسك وسادته و وقف في منتصف الغرفة حاميا نفسه بالوسادة … ملتفتا يمنة و يسرة … يراقب كل زاوية من الغرفة … مد يده بسرعة ليزيح الستائر … و يدخل النور إلى الغرفة … لعل أحدهم مختبئ في مكان منها …
- لا تتعب نفسك … لن تراني ولن يؤثر في وجود النور من عدمه
أنصت من الجهة التي يأتي منها الصوت … و قال … من أنت … أين أنت … أخرج ولا تخف …
- أخرج؟ هل أنت متأكد؟
- نعم نعم أخرج أرني وجهك … من تكون …
- حسنا … يبدو أنه علي أن أشرح لك من البداية ، هل لك بالجلوس و الهدوء؟
- لا … لن أجلس حتى تخبرني من تكون و من أنت و كيف دخلت إلى هنا … وماذا تريد مني …
- لا أعرف إن كان هناك من هو مثلك مهملا لنفسه ناسيا لها لا يعيرها أي إهتمام …
- لا لست ناسيا ولست مهملا لشيء … هيا أخرج و كفاك فلسفة
- أنت ؟ تريد أن تقنعني أنك مهتم بنفسك و تعرف ماتريد و تفعل ما يصلح بها؟ … قل كلاما آخر …
- أنا أعلم بنفسي منك … لن أزيد معك كلمة واحدة حتى ترني نفسك … و تواجهني … الآن حالا … كفى ممطالة
- لأنك تسألني هذه الأسئلة فأني أؤكد لك أنك لا تعلم عن نفسك شيئا ، و قد مضى زمن طويل جدا على آخر مرة تحدثت فيها مع نفسك أو صارحتها ، أو حتى إهتممت بها ليكون مصيرها …
أسكته في هذه اللحظة … وقال
- أصمت … لست في موقع يخولك أن تحاسبني على ما أفعل ولا أفعل … و أنا حر في نفسي
- الحقيقة أنت حر نعم … و لكن من حقي أن أقول ما أريد …
- لا يحق لك …
- حسنا كما تحب ، و على كل حال أنت لا تعيرني أي إهتمام ولا تهتم لي و لم يعد هناك بد من التدخل في حياتك بهذه الطريقة ، التي ما ودتت أن أضطر إليها حتى الآن …
- الآن … الحوار بيننا إنتهى … و قد تعديت حدودك …
أخذ يقلب الغرفة ، فتح أبواب الخزانة … نظر تحت السرير … أزاح الستائر … الكرسي … الملابس … لا وجود لأحد …
يبدو أنني تحت تأثير الجوع و قلة النوم و بدأت أهذي … يجب أن آكل شيئا دسما أملأ به بطني ، سأعد لنفسي الغذاء … أم تراهم تذكروني بشيء …
خرج من غرفته … و ساعة المطبخ تشير إلى الثالثة بعد الظهر … ألقى نظرة على ما بالثلاجة … فوجد صحنا جاهزا … يحتاج فقط إلى تسخين خفيف و آخر لسلطة و صحن مقبلات و آخر للتحلية … أعد الجلسة و هيأها … و أخرج الصحن من الفرن و الأبخرة تتطاير لترسم قصة رحلة إلى عمق الطعم ستأخذه … أعد كل شيء و رتبه … وضع الصحن الساخن وسط بقية الصحون لتكون وجبة و وليمة تشره لها الأنفس … جسل و نظر إلى ما جهز … إلتفت إلى خزانة المطبخ ونهض من مكانه و أخذ يبحث عن حفاضات التوابل و الباهارات … حتى وجدها … أخرج صحنا غائرا … و أخذ يسكب فيه من كل تلك البهارات و التوابل و يخلطها بعضها على بعض … و يهز الصحن أكثر لتمتزج الخلطة بعضها ببعض … أخذ الصحن و وضعه أمام كرسي مقابل حيث وضع كل صحونه و وليمته … و أخذ من الثلاجة علبة عصير … و جلس وأمسك بالملعقة ليباشر الأكل …
- ويحك يا رجل ماذا تفعل ؟
أسقط الملعقة من يده و تراجع بالكرسي فزعا … فلم يتوقع أن يسمع الصوت مجددا …
- ألم أقل لك أن لا تزعجني مرة أخرى ؟
- لا لم تقل ذلك
- حسنا ها أنا أقولها الآن … أغرب عن وجهي حالا ولا تعد
- أغرب عن وجهك إلى أين … و أنا لست حتى أمام وجهك ، و لكن قلي … لما تفعل هذا ؟
- نعم انت لست أمام و جهي ولكني أسمعك بوضوح و إن أمسكت بك سأعرف ما سأفعله بك …
- فقط أخبرني لما تفعل ما تفعله ؟ ألست جائعا و الواجب أن تأكل الطعام؟
- ما شأنك أنت ؟
- هل يعقل أن تترك الطعام و تجلس لتأكل البهارات و التوابل؟
- هذا ليس شأنك
- ولكن البهارات و التوابل وجدت لكي تجعل طعم الطعام ألذ و ليست لتؤكل … ستهلكنا يا رجل
- قلت لك ليس شأنك … إهتم لشئون نفسك أنت و دعني و شأني
- أنا مهتم بشؤون نفسي عندما أحدثك و أخبرك حالا أن تتوقف عن أكل البهارات و أن تأكل الطعام لأنه أساسا يحتوي على بعض البهارات التي تجعله يكون أجمل و ألذ و أكثر متعة و شبعته أنفع للبطن …
- هل تلقي محاضرة الآن أم أنك تغني؟
- لا لست أغني ولست ألقي محاضرة … و لكنك أتبعتني و لم أجد تفسيرا لما تفعله
- و هل وجدت أنا تفسير لوجودك أنت ؟
- أنا هو أنت ولست بأحد غريب عنك و ليس هناك شخص آخر معك في البيت و لن أغرب عن وجهك لأنني أنت ، و يبدو أنك لقلة ما تحدث نفسك وتحاسبها نسيت حتى صوتها و نسيت أن لك نفس و عليك الحديث إليها … و ها أنا أقلب الموازين لأحاسبك بدلا من أن تحاسبني … بعد أن إجتهدت لأتدرب على إسماعك صوت نفسك كما تسمعه الآن … فهل يعقل أن تهمل نفسك و تنجرف لشكليات حياتك و تترك الأساسيات ، ألا تعتبر ذلك من الحمق و الجهل أن تجلس إلى صحن من البهارات التي تضاف إلى الطعام لتعطيه طعمه و تجعله أكثر لذة و تزيد متعتك به … و تغرف بنهم تلك البهارات دون أن يكون هناك أي وجبة ؟
تجمد في مكانه على الكرسي … ونظر إلى الطعام الشهي المعد أمامه ... حتى تضببت صورة الصحون و أجزاء لشريط حياته … يتسارع في مخيلته … وهو يسمع نفسه تحدثه عن واقع فيه حتى آخره غرق …
أتدري … رأيت الكثير ممن يفعل مثلك تماما في الحياة … يترك الطعام و ينكب على البهارات … يترك الحياة و ينكب على الحب … و ما الحب إلا بعض توابل تضاف للحياة حتى تكون الرحلة فيها أقل مشقة …
رأيت من ينكب على الحب حتى صارت حياته كلها … مشقة … و هو يلهث و الحياة تهرب منه … والحب دائما له سارب في صحراء خالية يلاحقه
عرفت الآن من أنا ؟ ... أنا أنت ...
وها هو صوت القرقعة يعود من جديد ...
شكراً…